فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

يجوز أن يكون جملة {وابتلوا} معطوفة على جملة {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء: 5] لتنزيلها منها منزلة الغاية للنهي.
فإن كان المراد من السفهاء هنالك خصوص اليتامى فيتّجه أن يقال: لماذا عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وعن الاسم الظاهر المساوي للأوّل إلى التعبير بآخر أخصّ وهو اليتامى، ويجاب بأنّ العدول عن الإضمار لزيادة الإيضاح والاهتمام بالحكم، وأنّ العدول عن إعادة لفظ السفهاء إيذان بأنّهم في حالة الابتلاء مرجو كمال عقولهم، ومتفاءل بزوال السفاهة عنهم، لئلاّ يلوح شبه تناقض بين وصفهم بالسفه وإيناس الرشد منهم، وإن كان المراد من السفهاء هنالك أعمّ من اليتامى، وهو الأظهر، فيتّجه أن يقال: ما وجه تخصيص حكم الابتلاء والاستيناس باليتامى دون السفهاء؟ ويجاب بأنّ الإخبار لا يكون إلاّ عند الوقت الذي يرجى فيه تغيّر الحال، وهو مراهقة البلوغ، حين يرجى كمال العقل والتنقّل من حال الضعف إلى حال الرشد، أمّا من كان سفهه في حين الكبر فلا يعرف وقت هو مظنّة لانتقال حاله وابتلائه.
ويجوز أن تكون جملة {وابتلوا} معطوفة على جملة {وآتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2] لبيان كيفية الإيتاء ومقدّماته، وعليه فالإظهار في قوله: {اليتامى} لبعد ما بين المعاد والضمير، لو عبّر بالضمير. اهـ.

.قال القرطبي:

وهذه الآية خطاب للجميع في بيان كيفية دفع أموالهم.
وقيل: إنها نزلت في ثابت بن رِفاعة وفي عمه.
وذلك أن رفاعةُ توفي وترك ابنه وهو صغير، فأتى عمُّ ثابت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن أخي يتيم في حِجْري فما يحلّ لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. اهـ.

.قال الفخر:

قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: غير صحيحة، احتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية، وذلك لأن قوله: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} يقتضي أن هذا الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء، وهذا الاختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء، وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار، فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء، يقال: وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فثبت أن قوله: {فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم} أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم.
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قال: ليس المراد بقوله: {وابتلوا اليتامى} الإذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ} فإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال إليه حال الصغر، وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر، لأنه لا قائل بالفرق، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على قول الشافعي، وأما الذي احتجوا به، فجوابه: أن المراد من الابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله، في أنه هل له فهم وعقل وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد، وذلك إذا باع الولي واشترى بحضور الصبي، ثم يستكشف من الصبي أحوال ذلك البيع والشراء وما فيهما من المصالح والمفاسد ولا شك أن بهذا القدر يحصل الاختبار والابتلاء، وأيضا: هب أنا سلمنا أنه يدفع إليه شيئا ليبيع أو يشتري، فلم قلت إن هذا القدر يدل على صحة ذلك البيع والشراء، بل إذا باع واشترى وحصل به اختبار عقله، فالولي بعد ذلك يتمم البيع وذلك الشراء، وهذا محتمل والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والابتلاء هنا: هو اختبار تصرّف اليتيم في المال باتّفاق العلماء، قال المالكية: يدفع لليتيم شيء من المال يمكنه التصرّف فيه من غير إجحاف، ويردّ النظر إليه في نفقة الدار شهرًا كاملًا، وإن كانت بنتًا يفوّض إليها ما يفوّض لربّة المنزل، وضبط أموره، ومعرفة الجيّد من الرديء، ونحو ذلك، بحسب أحوال الأزمان والبيوت.
وزاد بعض العلماء الاختبار في الدين، قاله الحسن، وقتادة، والشافعي.
وينبغي أن يكون ذلك غير شرط إذ مقصد الشريعة هنا حفظ المال، وليس هذا الحكم من آثار كليّة حفظ الدين.
وبلوغ النكاح على حذف مضاف، أي بلوغ وقت النكاح أي التزوّج، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى، وللبلوغ علامات معروفة، عبّر عنها في الآية ببلوغ النكاح بناء على المتعارف عند العرب من التبكير بتزويج البنت عن البلوغ.
ومن طلب الرجل الزواج عند بلوغه، وبلوغ صلاحية الزواج تختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوّة والضعف، والمزاج الدموي والمزاج الصفراوي، فلذلك أحاله القرآن على بلوغ أمد النكاح. اهـ.

.قال القرطبي:

واختلف العلماء في معنى الاختبار؛ فقيل: هو أن يتأمّل الوصيُّ أخلاقَ يتيمه، ويستمع إلى أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله، والإهمال لذلك.
فإذا توسّم الخير قال علماؤنا وغيرهم: لا بأس أن يدفع إليه شيئًا من ماله يبيح له التصرف فيه، فإن نمّاه وحسّن النظر فيه فقد وقع الاختبار، ووجب على الوصيّ تسليمُ جميع ماله إليه.
وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنده.
وليس في العلماء من يقول: إنه إذا اختبر الصبيّ فوجده رشيدًا ترتفع الولاية عنه، وأنه يجب دفع ماله إليه وإطلاقُ يده في التصرف؛ لقوله تعالى: {حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ}.
وقال جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكون غلامًا أو جارية؛ فإن كان غلامًا ردّ النظر إليه في نفقة الدار شهرًا، أو أعطاه شيئًا نَزْرًا يتصرّف فيه؛ ليعرف كيف تدبيره وتصرفه، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه؛ فإن أتلفه فلا ضمان على الوصيّ.
فإذا رآه متوخِّيًا سلّم إليه ماله وأشهد عليه.
وإن كانت جارية ردّ إليها ما يُردّ إلى رَبّة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه، في الاستغزال والاستقصاء على الغزّالات في دفع القطن وأجرته، واستيفاء الغزل وجودته.
فإن رآها رشيدة سلّم أيضًا إليها مالَها وأشهد عليها.
وإلاّ بقيا تحت الحَجْر حتى يُؤنس رُشدهما.
وقال الحسن ومجاهد وغيرهما: اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتَنْمية أموالهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} أي إذا بلغوا حدّ البلوغ وهو إما بالاحتلام أو بالسن وهو خمس عشرة سنة عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهي رواية عن أبي حنيفة وعليها الفتوى عند الحنفية لما أن العادة الفاشية أن الغلام والجارية يصلحان للنكاح وثمرته في هذه المدة ولا يتأخران عنها، والاستدلال بما أخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه وأقيمت عليه الحدود ضعيف لأن البيهقي نفسه صرح بأن إسناد الحديث ضعيف، وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للغلام تمام ثماني عشرة سنة وللجارية تمام سبع عشرة سنة، وله في ذلك قوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] وأشُدّ الصبي ثماني عشرة سنة هكذا قاله ابن عباس وتابعه القتبي، وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن غير أن الإناث نشؤهن وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة، وعنه في الغلام تسع عشرة سنة، والمراد أن يطعن في التاسعة عشرة ويتم له ثماني عشرة، وقيل: فيه اختلاف الرواية لذكر حتى يستكمل تسع عشرة سنة.
وشاع عن الإمام الشافعي أنه قد جعل الإنبات دليلًا على البلوغ في المشركين خاصة، وشنع ابن حزم الضال عليه، والذي ذكره الشافعية أنه إذا أسر مراهق ولم يعلم أنه بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالبالغين من قتل ومنّ وفداء بأسرى منًّا أو مال واسترقاق أو غير بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالصبيان من الرق يكشف عن سوأته فإن أنبت فله حكم الرجال وإلا فلا وإنما يفعل به ذلك لأنه لا يخبر المسلمين ببلوغه خوفًا من القتل بخلاف المسلم فإنه لا يحتاج إلى معرفة بلوغه بذلك، ولا يخفى أن هذا لا يصلح محلًا للتشنيع وغاية ما فيه أنه جعل الإنبات سببًا لإجراء أحكام الرجال عليه في هذه المسألة لعدم السبيل إلى معرفة البلوغ فيها وصلاحيته لأن يكون أمارة في الجملة لذلك ظاهرة، وأما أن فيه أن الإنبات أحد أدلة البلوغ مثل الاحتلام والإحبال والحيض والحبل في الكفار دون المسلمين فلا. اهـ.

.قال الفخر:

المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} [النور: 59] وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام، وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع.
واعلم أن للبلوغ علامات خمسة: منها ثلاثة مشتركة بين الذكور والإناث، وهو الاحتلام والسن المخصوص، ونبات الشعر الخشن على العانة، واثنان منها مختصان بالنساء، وهما: الحيض والحبل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

الغالب في بلوغ البنت أنّه أسبق من بلوغ الذكر، فإن تخلّفت عن وقت مظنّتها فقال الجمهور: يستدلّ بالسنّ الذي لا يتخلّف عنه أقصى البلوغ عادة، فقال مالك، في رواية ابن القاسم عنه: هو ثمان عشرة سنة للذكور والإناث، وروي مثله عن أبي حنيفة في الذكور، وقال: في الجاري سَبْع عشرة سنة، وروى غيْر ابن القاسم عن مالك أنّه سبع عشرة سنة.
والمشهور عن أبي حنيفة: أنّه تسع عشرة سنة للذكور وسبع عشرة للبنات، وقال الجمهور: خمس عشرة سنة.
قاله القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بننِ عُمر، وإسحاق، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وابن الماجشون، وبه قال أصبغ، وابن وهب، من أصحاب مالك، واختاره الأبهري من المالكية، وتمسّكوا بحديث ابن عمر أنّه عرضَه رسولُ الله يوم بدر وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزه، وعرضه يوم أحُد وهو ابن خمس عشرة فأجازه.
ولا حجّة فيه إذ ليس يلزم أن يكون بلوغ عبد الله بن عمر هو معيار بلوغ عموم المسلمين، فصادف أن رآه النبي وعليه ملامح الرجال، فأجازه، وليس ذكر السنّ في كلام ابن عمر إيماء إلى ضبط الإجازة.
وقد غفل عن هذا ابن العربي في أحكام القرآن، فتعجّب من ترك هؤلاء الأيمّة تحديد سنّ البلوغ بخمس عشرة سنة، والعجبُ منه أشدّ من عجبه منهم، فإنّ قضية ابن عمر قضية عَين، وخلاف العلماء في قضايا الأعيان مَعلوم، واستدلّ الشافعية بما روى أنّ النبي قال: إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة كتب ما لَه وما عليه، وأقيمت عليه الحدود.
وهو حديث ضعيف لا ينبغي الاستدلال به.
ووقت الابتلاء يكون بعد التمييز لا محالة، وقبل البلوغ: قاله ابن الموّاز عن مالك، ولعلّ وجهه أنّ الابتلاء قبل البلوغ فيه تعريض بالمال للإضاعة لأنّ عقل اليتيم غير كامل، وقال البغداديون من المالكية: الابتلاء قبل البلوغ.
وعبّر عن استكمال قوّة النماء الطبيعي ببلغوا النكاح، فأسند البلوغ إلى ذواتهم لأنّ ذلك الوقت يدعو الرجل للتزوّج ويدعو أولياء البنت لتزويجها، فهو البلوغ المتعارف الذي لا متأخّر بعده، فلا يشكل بأنّ الناس قد يزوّجون بناتهم قبل سنّ البلوغ، وأبناءهم أيضًا في بعض الأحوال، لأنّ ذلك تعجّل من الأولياء لأغراض عارضة، وليس بلوغًا من الأبناء أو البنات. اهـ.